الثلاثاء، 14 أبريل 2009

عجائب الأنهار الدكتور أحمد هيبي

العلوم القديمة :
إرتبطت العلوم الإنسانية ومنذ البداية بالخرافات.
فقد فسّر الناس قديًما حدوث الزلازل بكوْن الأرض واقفة على قرن ثور، فإذا تعب الثور، ونقل الأرض من قرن لقرن حَدَث الإضطراب. وقد رأى الناس خسوف الشمس وكسوف القمر،
وقالوا إنّ التمساح الرّهيب هو الذي يحاول أن يأكل جزءًا من الكوكب.
ولمّا كان الناس يرون الظواهر، ولا يعرفون الأسباب أو الدّوافع وراء هذه الظواهر، فقد تبنوا النظرية الحيوية في العلوم. خبروا الرّياح وشدّتها في الطبيعة، فظنوا أنّ للرّياح روحا أو أرواحا تدفعها وتحرّكها. ورأوا البحر يثور وتهيج أمواجه، فقالوا عن البحر إنه غضبان. وبالتالي اعتبروا أنّ للبحر روحًا تحرّكه، وعاملوا البحر وكأنه مخلوق عاقل يحسّ ويشعر، يفرح ويغضب. وهكذا فعلوا مع الجبال والأنهار والينابيع والكواكب والأمطار.
وفي كتب الأقدمين العلمية تختلط الحقائق المجرّدة بالخرافات. وينقل الكُتّاب من الرّوايات أكثر ممّا ينقلون من الحقائق. بل إنهم بالكاد يحاولون التأكُّد من المعلومات التي ينقلونها عن غيرهم أو التي سمعوها. و"الدّميري" مثلا يؤلّف كتابًا عن "حياة الحيوان"، ولكنه لا يذكر أنه شَرَّحَ ضفدعة واحدة، أو خبر دواء واحدًا من الأدوية الموصوفة في كتابه من أكباد أو عيون أو أمخاخ الحيوانات. ولا يفعل الجاحظ أكثر ممّا فعل الدّميري، وإن كان اعتمد في كتابه "الحيوان" على بعض المشاهدات، أو خبراته الشخصية
. ولكن الكتاب بمُجمله مليء بالقصص والروايات والخرافات وحتى الشطحات اللغوية والأشعار. تَكَوُُّّن الخرافات والأساطير الناس يحبون بطبعهم الخرافات والأساطير. لأنها تُعطي تفسيرا بسيطا للأشياء. عدا كونها طريفة وسهلة الفهم والتكوين. وذلك خلافا للتفسير الواقعي للأشياء، الذي سيدخل في تفاصيل التفاصيل، مما لا طاقة للناس به. فالحية عدوة الإنسان،
لأن الشيطان اتخذ من شكل الحية الهيئة التي ظهر بها لآدم وحواء. والبرقوق أحمر لأن دم الإله ديونيسيس قد لطخه عندما قتل.
وقد خبرت أنا نفسي تكون واحدة من هذه الخرافات. فعندما فُتح باب الحج الى مكة في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، وسُمح لفلسطينيِّي الداخل زيارة مكة والمدينة، ذهب الى الحج حجاج من قرية كابول الجليل - البلد التي أقطنها. وكان أن تاه أحد الحجاج عن بقية حجاج بلده. وعندما عادوا الى البلاد، لم يعد معهم. فقال الناس في كابول وغيرها، أن السلطات السعودية ربما سفرت الرجل الى كابول في افغانستان، لما أخبرهم أنه من كابول. أما الذي حدث بعد ذلك فهو أن الرجل عاد الى كابول - بلده - بعد فترة قصيرة من عودة الحجاج الآخرين. وأنكر أن يكون قد سافر الى أفغانستان. ولا ظنَّ به أحد أنه من كابول أفغانستان. والحقيقية أنه تأخر عن رفاقه لأنه مرض وأُدخِل المستشفى، وعندما تعافى عاد الى بلده كما يعود الحجاج عن طريق الأردن. ولكن الناس أحبوا الرواية الأولى. وخصوصا الناس الذين من خارج كابول. فهذه الرواية أجمل وأكثر طرافة. والحقيقة يمكنها أن تنتظر، أو أن تختفي حتى. ولا يزال الناس من خارج كابول الجليل عندما يعرفون أني من كابول، يقولون: آه .. هذه بلد الحاج الذي ضاع في الحج ، ثم ، ثم أخذ الى أفغانستان، ظنا منهم أنه من كابول أفغانستان.
عجائب المخلوقات
و "عجائب المخلوقات" هو كتاب آخر لمؤلّف إسلامي قديم يُدعى القزويني. ويدلّنا اسم الرّجل أنه عاش في مدينة قزوين القريبة من بحر قزوين. إنه عبد الله بن زكريا بن محمد القزويني، ولكن الإسم لا يقول لنا شيئا كثيرًا، لأنّ البلاد كانت تدين بالإسلام وتسمّي أبناءها أسماء إسلامية. وثمة معلومة أخرى: عاش القزويني في القرن السابع الميلادي (506 هـ - 286هـ)، أي ما يقارب القرن الثالث عشر الميلادي. وهو زمان متأخر نسبيًا بالنسبة لظهور العلوم عند العرب، وتكلف بعضهم بها واهتمامهم بأدبيّاتها.
وعجائب المخلوقات هو شبه موسوعة علمية يحاول فيها صاحبها أن يحكي عن ظواهر الطبيعة وموجوداتها من زاوية مثيرة ومُلفتة للإستطلاع، وهي زاوية الغرابة أو العجب. والإسم الكامل للكتاب "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" يدلّك أنّ الكاتب لا يهتم فقط بالكائنات الحيّة، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل أيضا بالموجودات الأخرى الجامدة. وبالفعل فإن الكتاب يحكي عن النجوم والأرض والقمر والجبال والأنهار، بالإضافة إلى كونه كتابًا عن الحيوان.
والكتاب يحوي الكثير من الأجوبة والمعلومات عن أسئلة كنا نحبّ لو نجد من يعطينا عنها الإجابات
. فهناك فصل في فوائد القطب الشمالي، وهناك فصل في منازل القمر، وفصل آخر عن المريخ وفصل في تشاريح أعضاء الإنسان.
وإليكم مثلا ما يقول في الشحم: "الشحم جسم حار لطيف هوائي، خلق على أطراف العضل ومواضع العصب. والغرض من الشحم تسخين العصب على وجه لا يمنعه من سرعة الحركة".
وعن الشرايين يقول: "هي جداول مُضاعفة لأنها وعاء الرّوح". عجائب الأنهار وقد شاقني في هذا الكتاب فصلٌ عن الأنهار. وهي أنهار حقيقية حدّدها المؤلف بالاسم والموقع، كنهر النيل مثلا أو دجلة والفرات ..
ولكني وجدت الكاتب ينشط في الحديث عن هذه الأنهار، بكلام غير معقول. وربّما هذا ما جعلني أحبّ هذا الكتاب.
تلك الخرافات التي يحكيها الكاتب وكأنها حقائق أو مُسلَّمات لمجرّد أنه سمعها. وهو لا يكلّف نفسه عناء السؤال إن كانت صحيحة أو عديمة الأساس. فأنا قلّما أفتح كتابًا في الجغرافيا يشرح عن الأنهار. فإذا كان الموضوع المطروح هو طول الأنهار أو ارتفاع الجبال فأنا مجرّد قاريء ولست باحثا مهتمًا بالمواقع والأطوال. أمّا حين يجري الحديث عن أنهار تعرف الحساب أو تشفق على غريقها، فأنا أوّل مُحبّ للقراءة والإطّلاع. عجائب نهر إتل نهر "إتل" كما يقول القزويني هو نهر في بلاد الخرز (ربما كانت قريبة أو هي أفغانستان اليوم)،
ومنبع هذا النهر من بلاد الرّوس. وفي هذا النهر تعيش مخلوقات عجيبة.
والبلغار وجدوا مثلا رجلا عظيمًا يمشي فوق ماء النهر (آخر شخص شوهد يمشي فوق سطح الماء هو السيّد المسيح). هذا الرّجل كان طوله اثني عشر ذراعًا (فإذا كان الذراع هو ستة أقدام، أي حوالي مترين، فإنّ طول الرجل هو حوالي ستة أمتار!). أمّا أنف الرجل فأطول من شبر ورأسه أكبر ما يكون، وكذلك باقي أعضاء جسمه.
ولم يكن هذا الرّجل يستطيع أو يرغب في الكلام. يقول البلغار الذين رأوه: "وأقبلنا نكلّمه وهو لا يزيد على النظر إلينا".
وفي النهاية كتب ملك البغار الذي أحضر الرجل الغريب إليه إلى أهل "ويلسو" وبينه وبينهم مسيرة ثلاثة أشهر.
فلمّا جاء الجواب (على الأقلّ بعد ستة أشهر)، كان أنّ الرّجل من يأجوج ومأجوج. ويأجوج ومأجوج هما القومان اللذان كانا يعيثان الخراب في بلاد جيرانهما، حتى جاء ذوالقرنين وبنى سدًا حشرهم وراءه. وهذا السّد لن ينفتح إلا قريبًا من يوم القيامة
. وهذه القصة موجودة في القرآن الكريم، وبالتحديد في سورة الكهف. نهر يعرف الحساب ويعرّفنا القزويني خلال حديثه عن الأنهار، على مؤلّف طريف مثله، يروي عنه القزويني الأخبار، وهو صاحب كتاب قريب الشبه (على الأقلّ بالاسم) من كتاب القزويني وهو كتاب : "تحفة الغرائب". في هذا الكتاب الأخير جاء أنّ هناك نهر اسمه
"نهر الأسفار" قائم في أرض صقلاب (ربما جزء من تركيا)
يعرف الحساب ببساطة: فالماء يجري في هذا النهر سنة، ثمّ ينقطع ثمان سنين، ثمّ يعود إلى الجريان في السنة التاسعة وهكذا. نهر يجري تحت الأرض وفوقها ونهر "آنة" هو نهر يغور ماؤه تحت الأرض فلا يعود يظهر مسافة طويلة، ثمّ يعود ويظهر قريبًا من قرية تدعى آنة (من هنا اسم النهر)، ثمّ يختفي بعد ذلك، ثمّ يعود للظهور من جديد وهكذا.
نهر يقتل غريقه ونهر جيحون يقع في جهة روسيا وبلاد خوارزم. والغريب في هذا النهر أنه قلّما ينجو من يغرق فيه. وبعكس هذا النهر توجد أنهار رؤوفة بالغارقين فيها، مثل نهر دجلة. النهر السّاحر
ونهر "جريج" هو نهر في أرض الترك. وفي هذا النهر تعيش حيّات. فإذا وقعت عين مخلوق على هذه الحيّات، فإنه يفقد وعيه. وفي الميثولوجيا اليونانية نقرأ عن الميدوزا، وهو حيوان خرافي وتنبت الأفاعي فوق رأسه، فمن نظر إليه تحوّل إلى حجر من الأحجار. لماذا كان نهر دجلة مُتعرّجًا؟ ونهر دجلة الذي نعرفه بالعراق يخرج حسب رأي القزويني قريبًا من السّد الذي بناه ذو القرنين. وحبس أقوام يأجوج ومأجوج وراءه. وينقل القزويني عن ابن العباس (وهو ابن عمّ الرّسول) هذه الرّواية عن سبب تعرُّج النهر،
فيقول: إنّ الله طلب من النبي دانيال أن يحفر هذا النهر، وقد أمر الله الأرض أن تطيع نبيّه، فأخذ دانيال خشبة وأخذ يجرّها فوق الأرض، والماء يتبعه حيث اتجه. ولكن دانيال كان كلّما مرّ بأرض لشخص يتيم أو أرملة،
يشفق عليه ويُبعد مجرى النهر عن أرضه(وهي مأثرة قلّما تقوم بها مصلحة الشوارع في هذه الأيام). وهكذا أخذ النهر شكله المتعرّج.
النهر المداوى و
"نهر الرأس" في أذربيجان هو نهر له خاصة عجيبة، فإذا عبر شخص هذا النهر صار يحمل قوّة على التطبيب.
فإذا مسح هذا الشخص برجليه ظهر امرأة تعسّرتْ ولادتها، فإنها تلد بسهولة. وهذا النهر مُتسامح مع غريقه يشبه في ذلك نهر دجلة.
ويذكر أهل أذربيجان أنّ امرأة كانت تحمل ابنها فوق جسر النهر. وفجأة سقط الطفل في النهر، ثمّ غاص الطفل داخل الماء،
ثم خرج يطفو على السطح، ورآه نسر من السّماء فرفعه من الماء وأخذه إلى اليابسة. وهناك أخذ النسر يفكّ وثاق الطفل. عندها جاء الناس وطردوا النسر (دون أن يشكروه!)، وأخذوا الطفل الذي وجدوه يبكي، وردّوه سالمًا إلى أمّه. نهران عجيبان وقد كانت شركات صناعة صابون غسيل الثياب سوف تفرح لهذا الخبر
. فماء نهر زرير ونهر أصفهان موصوف باللطافة والعذوبة، فإذا غُسل بهذا الماء الثوبُ الخشن صار ليّنا مثل الحرير. أسرع نهر في العالم والنهر الوحيد الذي يخبرنا القزويني أنه خبره بنفسه كان "نهر الزاب" المجنون،
والذي سُمّي بالمجنون لشدّة جريان مائه. والقزويني شرب من ماء هذا النهر ووجده باردًا رغم حرارة الشمس المرتفعة في المنطقة.
وتفسير القزويني هو سرعة الماء الذي لا تستطيع أشعة الشمس أن تؤثر عليه!.
نهر الشلف وبافريقيا نهر يُسمّى "الشلف". يقول عنه القزويني إنه يظهر فيه السّمك لمدّة ستة أيّام مُحدّدة في السنة فقط.
وهو سمك الشيوف طيّب اللحم، طوله قدر ذراع وكثير الشوك. ثم ينقطع السمك بعد ذلك فلا يعود يُرى
. نهر طبريا ويحدّثنا القزويني عن نهر طبريا فيقول: "هو نهر عظيم. والماء الذي يجري فيه نصفه حار ونصفه بارد لا يختلط أحدهما بالآخر. فإذا أخذ في الإناء يبقى كلّه باردًا خارج النهر". وطبعًا نحن أهل البلاد لا نعرف شيئا عن خاصية هذا النهر ولا نعرف بالضبط عن أيّ نهر يتكلّم القزويني. ففي بحيرة طبريا تصبّ عدّة أنهار. نهرالعاصي نهر العاصي سُمّي بهذا الإسم لأنه يعصى باقي الأنهار. والتي جميعها يتوجّه من الجنوب إلى الشمال في تلك البلاد، بينما هو يجري من الشمال إلى الجنوب. نهر مكران نهر عليه جسر من الحجر قطعة واحدة. فمن عبر على هذا الجسر يتقيّأ جميع ما في بطنه. وحتى لو كان العابرون ألوفًا، فإنهم جميعًا يتقيّأون. وقد كان سكان ذلك الموضع يعبرون الجسر إذا أرادوا التقيُّؤ. عمر بن الخطاب يخاطب نهر النيل ونهر النيل هو النهر المعروف في مصر. كان في بعض السنين لا يفيض فيتضرّر المزارعون، فيعتمد السكان فتاة بكر يلقونها في النهر بعد أن يلبسوها أجمل الثياب والحليّ، ويرضون أهلها ببعض المال، فكان النيل يفيض بعدها. وعندما احتلت جيوش المسلمين مصر، وكان النيل لا يفيض وقتها، طلب الناس من عمرو بن العاص فاتح مصر أن يفعلوا ما يفعلون كلّ سنة. فرفض ذلك وقال إنّ ذلك لا يصحّ في الإسلام.
وكتب ابن العاص إلى عمر بن الخطاب يستشيره في هذه المسألة، فبعث إليه الخليفة بطاقة طلب منه أن يلقيها في نهر النيل. وكان مكتوبًا في البطاقة: "من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر: إن كنتَ تجري من قبَلك (أي بخاطرك) فلا تجري، وإن كان الواحد القهّار هو الذي يجريك، فنسأل الواحد القهّار أن يجريك". وبالفعل، فإن النهر عاد يجري كما كان بعد أن ألقيَتْ فيه البطاقة وليس الفتاة المسكيتة. نهر يغيّر اتجاهه ويذكر القزويني عن صاحب "تحفة الغرائب" ما جاء عن نهر في اليمن يجري عند طلوع الشمس من المشرق إلى المغرب، فإذا غابت الشمس غيّر اتجاه مسيره وجرى من المغرب إلى المشرق.
نهر المهدي ونهرالمهدي هو بين البصرة والأهواز. وعجيبة هذا النهر أنه في بعض الأوقات ترتفع منه منارة يُسمَع منها أصوات الطبل والبوق ولا يعرف أحد سبب ذلك أو مصدره. ولعيون الماء غرائب وفي كتاب القزويني فصلٌ عن غرائب عيون الماء.
ففي أذربيجان عين ينبع الماء منها ثم ينعقد، أيّ يصير حجرًا. والناس يتخذون قوالب كقوالب البلوك ويصبون الماء في هذه القوالب، ويصبرون قليلا فيتحوّل الماء في القوالب إلى حجارة صلبة يستعملونها في البناء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق